الانفجار السوري.. دلالاته وآثاره الإقليمية والدولية
سقط النظام السوري بكل مزاياه ورزاياه، سقط باستبداده الذي لا يختلف عن نظيره في الغالبية الساحقة من النظم السياسية العربية، وبدعمه الكبير لقوى المقاومة ضد الكيان الصهيوني والذي كان ينفرد به في المشرق العربي. وربما تكون الدولة السورية الموحدة ذاتها قد أصبحت في مهب الريح. وصحيح أن سورية كانت مقسمة فعليا بين الأكراد، والمتطرفين من مجموعات التكفير والإرهاب، والنظام نفسه، حتى قبل سقوط الدولة والنظام، لكن فكرة الدولة الموحدة كانت باقية وتشكل هدفا معلنا للجميع. أما الآن فإن طموحات الاستقلال والانفصال ستتعزز لدى المكونات الكردية والعلوية والدرزية، ليبقى مستقبل الدولة السورية ووحدتها مرهونا بالتفاعلات السياسية والعسكرية بينها، رغم أن رموز الحكم الجديد يؤكدون على وحدة الدولة السورية التي ستتأكد جديتهم بشأنها من خلال بناء التوافق بين مكونات المجموعات الإرهابية والمسلحة التي أسقطت النظام، أو انفراطها في صراعات على السلطة.
أداء مزري للجيش السوري.. لماذا؟
شكل الأداء المزري إلى أبعد الحدود للجيش السوري، علامة استفهام كبرى ومفاجأة حتى لأعدائه، فهو عبارة عن سلسلة من الانسحابات أنتجت الهزيمة الكاملة بلا حرب حقيقية في النهاية، حيث كان ينتظر دعم حلفائه طوال الوقت، وهو أمر يدعو للتأمل. وصحيح أن الكيان الصهيوني ساهم في إضعاف ذلك الجيش بتدمير مستودعات أسلحته ومخازن ذخيرته في مناطق القتال، وبقصف قوات حزب الله التي كانت متوجهة لدعمه، وصحيح أيضا أن تركيا قدمت لهم أحدث ما لديها من أسلحة، لكن ذلك لا يشكل مبررا مقبولا لذلك الانهيار المروع. والأرجح أن ذلك الجيش كان يفتقد للحاضنة الشعبية، في ظل كراهية الطائفة السنية الضخمة للنظام ومعه الجيش الذي تعتبره جيشه وليس جيش الأمة، وهو إنذار لأي جيش عربي يفتقد لولاء ومحبة مواطنيه إذا تماهى مع النظام الحاكم وأصبح قبضته في مواجهة الشعب وليس مؤسسة الشعب للدفاع عن أمنه القومي وسلامة ووحدة أراضيه وفقط. كما أن ذلك الجيش نفسه المكون من كل أبناء الطوائف والعرقيات السورية، لم تكن لديه اللحمة والبأس للدفاع عن الوطن، وعن نظام سياسي لا يؤيده أبناء تلك الطوائف.
دلالات الاحتفالات الشعبية العاصفة وعودة اللاجئين المرجحة
ربما تكون الاحتفالات الشعبية العاصفة بسقوط النظام وجيشه، علامة فارقة على التآكل شبه الكامل لشعبيته، سواء لكونه نظاما استبداديا قمعيا مثل الغالبية الساحقة من النظم السياسية العربية، أو لفقدانه الأدوات التي يمكن أن من خلالها أن يخلق حالة من التراضي مع الشعب، حيث كان يتعرض لحصار اقتصادي خانق في ظل العقوبات الأمريكية والغربية، وفي ظل سيطرة الأكراد برعاية أمريكية، على أهم حقول النفط، وسيطرتهم مع المجموعات الإرهابية والمسلحة على أهم المناطق الزراعية في الشمال السوري.
وربما تكون إحدى الإيجابيات للتطورات الأخيرة، هي عودة اللاجئين السوريين المرجحة إلى وطنهم وإنهاء المآسي الإنسانية لتبعثرهم في دول المنطقة وفي مختلف أركان الأرض. لكن النظام الديني الذي سيتشكل من المجموعات المتطرفة دينيا التي سيطرت على الحكم في سورية، سيكون في انتظارهم بقواعد مجهولة، لكنها بحكم الطبيعة الدينية، ربما تكون أبعد ما يكون عن الحريات السياسية والشخصية التي ينشدونها، إلا إذا أجرت تلك المجموعات تغييرات جوهرية في منهجها لتأهيل نفسها للقبول الإقليمي والدولي ورفع صفة الإرهاب عن القوة الرئيسية فيها. كما أن المقابل لهذا الأمر الإيجابي، ربما يكون عمليات الانتقام والتنكيل بمؤيدي النظام الذي سقط، بما يحدث المزيد من الشروخ في البنية الاجتماعية المتشابكة والمعقدة أصلا.
روسيا والأقلية العلوية لدى سقوط الساحل
خريطة السقوط لم تكتمل بعد، فالساحل السوري حيث تقطن الأقلية العلوية في جزء منه، وحيث توجد القواعد العسكرية الروسية، يشكل نقطة مفصلية في المستقبل السوري، فلو سقط الساحل ستتعرض الأقلية العلوية للتنكيل على الأرجح، أو التهميش كحد أدنى، من المجموعات الإرهابية والمسلحة التي سيطرت على الحكم، وحتى من باقي مكونات الشعب السوري حيث توجد فكرة انطباعية تربط تلك الأقلية العلوية كليا بالنظام السياسي الذي سقط، وبكل ما كان يثير الاحتقان معه.
كما سيتم اقتلاع روسيا نهائيا من الجغرافيا السورية سلما أو حربا إذا سقط الساحل السوري، بما يجسد خسارة استراتيجية لها بعد سقوط أهم حليف لها في المنطقة كنتيجة مباشرة لخطيئتها الاستراتيجية بالتفاهم مع تركيا قبل أربعة أعوام، والذي تم بناء عليه إبقاء إدلب مستودعا لكل الإرهابيين والتنظيمات المسلحة وإيقاف استعادتها للدولة السورية. وستتغير معادلات العلاقات الروسية-التركية لصالح الأخيرة التي أصبحت في موقف أقوى كثيرا بعد سيطرة أتباعها على الدولة السورية. ومن المفهوم أن قدرة روسيا على دعم نظام الأسد تآكلت كثيرا في الأحداث الأخيرة، بسبب انشغالها بحربها ضد حلف الأطلنطي "الناتو" في أوكرانيا، لكن تكلفة خسارتها الاستراتيجية في سورية سوف تكون أكبر كثيرا من أي تكاليف كانت ستتكبدها لدعم الدولة ومنع سقوطها.
مستقبل غامض للكيان الكردي وللهيمنة الأمريكية في شرق سورية
الكيان الكردي القائم في شمال شرق سورية تحت الحماية الأمريكية، سيكون من الصعب عليه الصمود في مواجهة منتخب جحافل الإرهابيين والمسلحين السوريين وغير السوريين المدعومين بقوة حاضرة على الأرض جيشا وإمدادا هي تركيا، مع تمويل قطري كبير، إلا من خلال تفاهمات أمريكية-تركية ستكون مقرونة بقيود مشددة على الأكراد الذين سيكونون في كيان داخلي لا توجد له حدود بحرية، وبالتالي سيكون ذلك الكيان مجبرا على دفع ثمن أي تفاهمات لمن سيشكل منفذه إلى البحر، هذا إذا لم تحدث مواجهات ضخمة أو اتفاقات تنهي الوضعية المستقلة للأكراد، وتنهي انفرادهم باستغلال ونهبهم لأهم حقول النفط السورية، وهذا هو السيناريو المرجح لأن تركيا تريد هزيمة كاملة للمشروع الكردي حتى ولو في حدود الحكم الذاتي، وستدفع حلفائها في سورية على الأرجح، إلى الانقضاض على الكيان الكردي. ولو حدث ذلك لن يكون أمام الولايات المتحدة سوى التسليم بالهيمنة التركية، لأنها هي وأتباعها هم القوة الكبرى على الأرض السورية الآن.
النظام المذهبي العراقي والدولة اللبنانية واحتمالات الاضطراب
يشكل النظام المذهبي المقيت في العراق، وازدواج سلاح الدولة بين الجيش والميليشيات الإرهابية التي أعملت سلبا ونهبا وتقتيلا وتدميرا في المناطق السنية تحت دعوى مواجهة داعش، وتبعية تلك الميليشيات للعدو التاريخي للعراق أي إيران، عوامل مهمة لإثارة الاضطراب المحتمل في العراق الذي ربما يكون هدفا قادما للتوتر والاشتعال، فالمنطقة السنية ستكون حاضنة شعبية ضخمة لأي قوة تعمل على إسقاط النظام المذهبي الذي يهيمن عليه الشيعة وميليشياتهم الإيرانية الهوى والإرهابية في العراق. وسوف تتوقف التطورات هناك على الموقف الأمريكي والدعم الخليجي وبخاصة السعودي، والدعم السوري والتركي لأي حراك سياسي أو عسكري في المنطقة السنية.
أما لبنان فإنه في خطر داهم، فالمجموعات الإرهابية والمسلحة التي سيطرت على الحكم في سورية، لها حاضنة ضخمة في لبنان تتمثل في اللاجئين السوريين، وغالبيتهم متعاطفون على الأقل مع تلك المجموعات، إن لم يكونوا على ارتباط وثيق معها. كما أن هناك ثأر خاص مع حزب الله الداعم المهم لنظام بشار الأسد الذي أسقطته تلك المجموعات، وهذا الحزب الذي قاد المقاومة ضد الكيان الصهيوني لسنوات طويلة، تعرض بالفعل لخسارة استراتيجية بفقدان المعبر والمصدر السوري للدعم، وسوف يكون مجبرا على الأرجح، على التركيز على نفوذه السياسي المبني على قاعدته الشعبية الكبيرة في لبنان، مع تقييد استقلال سلاحه ودوره في مواجهة الكيان الصهيوني، وهو مكسب استراتيجي للأخير. وعلى الدولة اللبنانية أن تضع كل الاحتمالات القادمة من انهيار النظام السوري في اعتبارها، وتحاول منفردة أو بمساندة حلفائها، تحييد المخاطر القادمة من الأحداث السورية.
مكسب استراتيجي للكيان الصهيوني وخسارة كبرى لإيران
حقق الكيان الصهيوني الذي ساهم في إسقاط النظام، مكسبا استراتيجيا هائلا بانفراط محور المقاومة المواجه له، لينفرد بحزب الله في لبنان والمقاومة الفلسطينية في غزة. وقد بادر ذلك الكيان لاختراق السياج العازل الذي يفصله عن منطقة سيادة الدولة السورية، وقام فعلا باحتلال المنطقة العازلة التي تفصله عن الجيش السوري المنهار، لتحسين تموضعه في الجولان السوري مع حفر خنادق عازلة. وسوف يعزز سيطرته على الجولان الذي ضمه بصورة غير معترف بها دوليا، خاصة وأن دروز الجولان الذين رفضوا الهوية الإسرائيلية، وأصروا على هويتهم العربية السورية، ربما يضعف موقفهم في ظل صعود نظام متطرف دينيا في سورية. وسيتوقف الأمر على موقف الحكم السوري الجديد من الكيان الصهيوني ومن احتلاله للجولان، ومن الأقلية الدرزية في الجولان وفي باقي سورية التي سيكون لديها طموح للحكم الذاتي في هذه الظروف.
أما إيران فهي الخاسر الأكبر فقد انفرط محورها الإقليمي المقاوم في مواجهة الكيان الصهيوني، ولم يعد أمامها سوى التقوقع على الذات لحماية نظامها الديني الذي يحكم قبضته القمعية على بلد لا يتوافق الكثير من مكوناته مع الطبيعة الدينية للنظام. وربما تكون إيران مرشحة لتوترات سياسية وحتى عرقية في المنطقتين الكردية والعربية على الأقل في الفترة القادمة.
هياكل الدولة واحتمالات التوافق والصراع بين مكونات الرابحين في الحرب
يحاول رئيس الوزراء السوري الأخير، الإبقاء على هياكل الدولة حتى لا يتكرر ما حدث في العراق من تدمير كلي للدولة العراقية، وهي شجاعة حقيقية ومسئولة من الرجل، وهو ما سمحت به المجموعات الإرهابية والمسلحة التي تريد وراثة هياكل الدولة دون تدميرها كليا، وهو أمر إيجابي نادر في هذه المعمعة الرهيبة والصادمة في مفاجآتها.
وتبقى عشرات المجموعات الإرهابية والمسلحة نفسها الموضوع الأشد تعقيدا، فهي موزايك متباين سيكون بناء لحمته وتفادي الصراع بين مكوناته أمرا شديد الصعوبة بعد انتهاء نشوة إسقاط النظام. وسوف يتوقف مستقبل الدولة السورية على بناء تلك اللحمة الوطنية، أو انفجار الصراع بين مكونات المجموعات الإرهابية والمسلحة التي سيطرت على الحكم، أو أن تغير تلك المجموعات نفسها بعد السيطرة على الحكم بهدف الخروج من تصنيف الإرهاب الذي تصنفها به الأمم المتحدة والولايات المتحدة، لأن بقاء ذلك التصنيف سيترتب عليه استمرار العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية على سورية، وربما تتعرض لحصار اقتصادي، لكنه لن يكون فعالا كما كان الأمر بالنسبة لنظام بشار الأسد، لأن تركيا الحليفة بقوتها الاقتصادية الكبيرة، سوف تشكل مخرجا كبيرا من أي حصار اقتصادي محتمل.
الرسالة السورية للنظم العربية الحاكمة.. هل من يقرأ؟
يشكل نموذج انهيار النظام السوري الحاكم كأوراق الخريف في غياب الحاضنة الشعبية المتضامنة معه، رسالة مهمة للنظم السياسية الحاكمة في الدول العربية. فذلك الانهيار ينبغي أن يحفز كل من لديه عقل وحكمة في تلك الدول، للقيام بكل ما يلزم اقتصاديا وسياسيا لبناء التوافق والتراضي الاجتماعي الوطني على قواعد الحرية والديموقراطية والتنمية والعدالة والكرامة والمساواة أمام القانون، كأساس للسلم الأهلي واللحمة الوطنية، وليس القبضة الأمنية والقمع الذي لا ينتج سوى احتقانات وكراهية وخذلان شعبي للدولة في لحظات المصير.