دور مصر في حرب غزّة.. غموض متعمّد أم تنازع إرادات؟
الجغرافيا، والجغرافيا فقط، ما زالت تعطي لمصر دورًا يصعب تجاوزه في صياغة قدر من المصائر التي ستؤول إليها حرب غزّة الحالية. التراجع الفادح في دورها الإقليمي عمومًا وفي دورها التاريخي القيادي في القضية الفلسطينية خصوصًا انكشف بقسوة مع عدم خروجها والدول العربية الحليفة لواشنطن قيد أنملة على الخط الذي رسمته أمريكا لمعالجة صراع "طوفان الأقصى".
لكن ذلك لم يمنع من انفجار الحديث عن الدور المصري ليصبح موضوعًا رئيسيًا في السياسة والإعلام الغربي والإسرائيلي والعربي في الأسبوعين الأخيرين، كما لم يحصل منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من ٢٠٠ يوم.
أسباب العودة المُركّزة إسرائيليًا وأمريكيًا للدور المصري، تتعلق بحقيقة الانهيار الذي وصلت إليه مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى بين المقاومة وإسرائيل، وفشل الضغوط الغربية على الوسيطين العربيين في دفع المقاومة للاستسلام.
فهذه المفاوضات تم وضع المقاومة فيها من قبل الأمريكيين والوسطاء تحت ضغط هائل، مفاده أنها المنفذ الوحيد الذي قد يمنع أو يؤجل اقتحام إسرائيل عسكريًا لرفح. مع انهيار المفاوضات تراجعت واشنطن عن معارضتها لعملية عسكرية إسرائيلية في رفح. بررت واشنطن تراجعها بأنه يتسق مع اتفاقها مع نتنياهو على سحق وتصفية سلاح المقاومة من جهة، وأنّ إسرائيل وافقت على تدابير تسبق الهجوم، مثل إنشاء الممر الإنساني لعودة جزء من الفلسطينيين المتكدسين في رفح وأنها ستلتزم بتكتيكات قتال في رفح قد تمنع سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين.
صاحب ذلك حملة إعلامية إسرائيلية وغربية ومُركّزة بخصوص الدور المصري في العشرة أيام الأخيرة، سارت في مسارين وتمّت صياغتها بدقة.
المسار الأول: هو الإدعاء بأنّ مصر هي المسؤولة منذ عهد مبارك وحتى السيسي عن السماح بتهريب أسلحة للمقاومة من خلال الأنفاق، وأنه آن الآوان لعملية تُكفّر فيها مصر عن ذنبها!!، وتسمح بعملية عسكرية تسيطر بعدها إسرائيل بشكل كامل على الحدود بين مصر وغزّة، رغم ما يمثله ذلك من خرق فاضح لمعاهدة السلام المصرية/الإسرائيلية.
المسار الثاني: هو تسريب معلومات مفادها أنّ مصر غيّرت مواقفها، فهي باتت تقبل بعملية عسكرية في رفح، وأنها فقط تنسّق باتصالات مكثّفة ثلاثية تشملها مع الأمريكيين والإسرائيليين في خطة تضمن أن تكون نتائج هذه العملية مسيطَر عليها بحيث لا تؤذي الأمن المصري.
ويقولون في هذا إنّ مصر لن تقوم بأي رد فعل من أي نوع، ولن تستخدم حقها الذي يمنحه لها القانون الدولي بوقف العمل بمعاهدة السلام الذي ستمثّل العملية في رفح خرقًا فاضحًا لملحقها الأمني ولن تعلّق حتى العلاقات الدبلوماسية أو تسحب سفيرها.
ستمتنع مصر حسب الحملة المذكورة عن اتخاذ أي خطوة من الخطوات التي تتوافر لها فيها كل الشرعية السياسية والقانونية، الأخطر هو ما أكدته هذه الحملة الممنهجة من أنّ مصر لم تعد تعتبر الهجرة الفلسطينية لأراضيها خطًا أحمر وأنها ستقبل بهجرة مؤقتة ومتفق عليها لألوف من الفلسطينيين للأراضي المصرية قيل في بعض التقديرات إنهم ١٠٠ ألف وفي تقديرات أخرى ٣٠٠ ألف فلسطيني، مع ضمانات قد تقدّمها واشنطن بعودتهم بعد انتهاء الحرب إلى غزّة!!.
سُرّب في هذا السياق أيضًا تلميحات بأنّ الـ٥٠ - ٦٠ مليار دولار الذين هبطوا على مصر مرّة واحدة من دول خليجية ومؤسسات دولية للتخفيف من أزمة مصر الاقتصادية كانت الثمن المقدّم كي يصبح المسار الثاني "مبلوعًا" ومقبولًا من دائرة الحُكم المصري. وإنّ سوابق اتخاذ مصر قرارات سياسة خارجية صادمة تحت وطأة مديونيتها الخارجية ليست جديدة، وسبق لواشنطن وحلفائها الغربيين والخليجيين تجربتها بنجاح من قبل مع كل من السادات ومبارك.
كل هذا مفهوم في ظل حروب الأعداء النفسية للضغط على قرار الخصم وتوجيهه. ما أعطى للسردية الإسرائيلية والغربية قيمة هو أنها ترافقت مع تصريحات وتسريبات بعضها لمصادر مصرية مسؤولة وبعضها وأخطرها لرئيس الدبلوماسية المصرية ووزير خارجيتها السفير سامح شكري مؤخرًا، أوحت بوضوح لا لبس فيه أنّ القاهرة قد تقبل بتهجير فلسطينيين إليها لأسباب إنسانية!!. ولعمري فإنّ هذا موقف مختلف تمامًا عن الموقف القاطع السابق بأنّ هذه الهجرة هي خط أحمر.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تناقض التصريحات المصرية بين لهجة حازمة لبيانات هيئة الاستعلامات ولهجة رخوة لوزير الخارجية، هو تعبير عن محاولة لخلق غموض في حقيقة الموقف المصري يسمح لدائرة صنع القرار بهامش مناورة أكبر في مواجهة أزمة معقدة هي الأزمة الأخطر في الشرق الأوسط منذ حرب أكتوبر ٧٣؟.
في القاهرة تيار أمريكي الهوى يقابله تيار آخر يرى تهديدًا جسيمًا للأمن القومي يقتضي رفض الخطط الأمريكية
اختيار الغموض في وقت الاستقطاب، هو اختيار خاطئ، شديد الخطورة والسذاجة في وقت تمايزت فيه المواقف واصطفت فيه المعسكرات، ليس فقط إقليميًا ولكن حتى دوليًا. في هذا الصدد يرجى فقط مراجعة عودة نمط التصويت في مجلس الأمن تجاه حرب غزّة إلى مستويات الاستقطاب الحادة التي ميّزت عصر الحرب الباردة، أم أنها تعبير عن ارتباك حقيقي داخل هذه الدائرة بين تيارين يرى كل منهما الأزمة بصورة مختلفة عن الآخر وبالتالي يقترح سياسات متباينة للتعامل معها، ويظهر هذا في صورة تصريحات متناقضة لمسؤولين وجهات مصرية يفترض أنهم يمثلون جميعًا المصالح نفسها والسياسة نفسها.
من الناحية النظرية يبدو هذا ممكنًا في مصر ما بعد ٢٠١٣ حيث سادت نظرية معيّنة وغير معلنة فيما يتعلق بالسياسة الداخلية أيام الحوار الوطني. هذه النظرية تقول إنّ هناك جناحًا في الدولة المصرية - لم يتجاوز "متلازمة" ثورة ٢٥ يناير - يرى أنّ قمع المعارضة والتضييق عليها هو السبيل لاستقرار النظام السياسي، وهناك جناح آخر يرى أنّ الحوار مع المعارضة وتخفيف القبضة الأمنية الجاثمة على الأنفاس وعلى السياسة والإعلام هو الخيار الأفضل لإطالة عمر النظام.
فهل هذه السردية موجودة أيضًا في السياسة الخارجية؟.. ويوجد في القاهرة تيار أمريكي الهوى لا يرى مستقبلًا لمصر تتدفق فيه المساعدات والقروض لحل المشكلة الاقتصادية غير استمرار الرضا الأمريكي، وهو رضا يعلم الجميع أنه مشروط باستمرار معاهدة السلام مع إسرائيل، وبالتالي فإنّ استمرار المعاهدة هو أولوية للسياسة الخارجية المصرية حتى لو كان على حساب دورها الإقليمي وقيمتها في المنطقة والعالم!!، يقابله تيار آخر ما زال يرى أنّ تصفية المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية هو تهديد جسيم للأمن القومي المصري والعربي يقتضي رفض الخطط الأمريكية لليوم التالي لحرب غزّة المنحازة كليةً لإسرائيل وتجميد أو تعليق المعاهدة إذا خرقتها إسرائيل في رفح وممر فيلادلفيا.. لا أحد يعلم!!
السبب الثاني الذي يناقش انقسام نخبة صنع القرار المصري شديدة الضيق وشديدة الحداثة في مواجهة المواقف المركّبة هو أنّ حرب غزّة هي من نوع التحوّلات التاريخية التي تحمل عناصر معقدة، ففيها عوامل متشابكة ومتناقضة تتعارض فيها المسارات والخيارات وكل المزايا والمكاسب في خيار يبدأ صانع القرار في التوجه إليه ويجده محفوفًا بمخاطر وخسائر تجعله يعيد حساباته من جديد.
الخطورة الحقيقية هنا؛ هو أنه عندما تتعارض المسارات والخيارات أمام دائرة صنع القرار غير المتمرسة في نظام سياسي، تميل هذه الدائرة عادةً إلى إعادة إنتاج المواقف السابقة لهذا النظام في مواجهة أزمات مماثلة.
معالجة أزمات سياسة خارجية للنظام المصري منذ نصف قرن كانت تتحكم فيها ضغوط الأزمة الاقتصادية الآنية
وللأسف فإنّ المواقف السابقة ومعالجة أزمات سياسة خارجية للنظام السياسي المصري منذ نصف قرن كانت تتحكم فيها ضغوط الأزمة الاقتصادية الآنية وليس مصالح الأمن القومي العليا، وكانت تدفع فيها مصر وأمّتها أثمانًا باهظة فقط لمجرد التخلص ولو مرحليًا من عبء ومصيبة الديون الخارجية مثل قرار السادات بزيارة إسرائيل وإنهاء دور مصر القيادي، أو قرار مبارك بدعم التحالف الدولي ضد العراق الذي قاد لاحقًا لسقوط النظام الإقليمي العربي.
كما تميل هذه الدائرة لحل أزمة سياسة خارجية بخبرتها المختلفة أشد الاختلاف في السياسة الداخلية، تعمم تجربتها السلبية المحلية من "الإخوان المسلمين" على "حماس" لأنّ جذورها كانت في هذه الجماعة ولا تمانع ساعتها من أن تصفي إسرائيل المقاومة حتى لا ينتصر في ظنها تيار الاسلام السياسي ويعود للانتعاش مجددًا في مصر وفي المنطقة.
مخاوف ومحاذير لا حد لها تفصح عنها السردية الاسرائيلية الغربية المتماسكة عن بلد كان يومًا رأس الحربة في مواجهتهم، لكنه قرر أن يضحي بكل شيء عدا معاهدة السلام معهم.. وآمال غائمة محدودة بالثبات والصلابة وعدم التفريط في الأمن القومي والدور تضعف الثقة فيها سردية غير متماسكة بخطابات سياسية متعددة ومتناقضة تبعث برسائل سياسية مختلفة.
لن ننتظر أعوامًا ولا حتى شهورًا لنعرف كيف مارست مصر دورها في تشكيل المستقبل ومشهد ما بعد حرب غزّة.
الخميس 25 نيسان 2024
حسين عبد الغني